
في خطوةٍ كانت متوقّعة لدى شريحة واسعة من الشارع السوري نظراً للعقلية الإقصائية التي تنتهجها الحكومة السورية المؤقتة الجديدة والتي لا تختلف عن عقلية النظام البائد عبر التفرّد بالسلطة وتهميش الشعوب والمكوّنات السورية والعمل وفق هذا المنطق إلى عدم جديّتها في الحل وذلك بعد سنوات طويلة من الصراع الدامي في سوريا.
اختتمت يوم أمس، السبت، في مدينة قامشلو في شمال وشرق سوريا أعمال كونفرانس “وحدة الصف والموقف الكردي”، حيث توصلت الأطراف الكردية المشاركة إلى مصادقة رسمية على وثيقة “الرؤية السياسية المشتركة”، التي ترسم ملامح حلٍّ سياسي شامل للقضية الكردية ضمن إطار الوحدة الوطنية السورية ونظام حكم برلماني لا مركزي.
ورغم بنود الوثيقة الواضحة التي أكّدت أن تحقيق وتثبيت الحقوق المشروعة للشعب الكردي، بإمكانها أن تلعب دوراً ريادياً في التحولات الديمقراطية الجذرية في سوريا بشكل خاص، وفي المنطقة بشكل عام، مما سيُشكّل مدخلاً لحل قـضايا جميع المكونات الأخرى ضمن سوريا موحدة، إلا أن الرئاسة الانتقالية السورية أصدرت اليوم بياناً خلطت فيها الحابل بالنابل ـ كما يقول المثل الشعبي – متهمةً الكونفرانس الكردي بأنه يهدد وحدة وسلامة البلاد وأنها تتعارض مع مضامين الاتفاق الأخير الذي جرى بين الرئيس السوري أحمد الشرع والقائد العام لقوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي.
بيان الرئاسة الانتقالية السورية اعتبر أن الكونفرانس الكردي هو محاولة لفرض واقع تقسيمي أو إنشاء كيانات منفصلة تحت مسميات الفيدرالية أو الإدارة الذاتية دون توافق وطني شامل، معتبرةً أن وحدة سوريا أرضاً وشعباً خط أحمر، وأي تجاوز لذلك يُعدّ خروجاً عن الصف الوطني ومساساً بهوية سوريا الجامعة، ليس هذا وحسب بل مضى البيان في المزيد من تزوير الحقائق وفقاً للعقلية الشمولية الإقصائية التي تتشابه إلى حد كبير مع عقلية نظام البعث البائد من حيث الشكل والمضمون عبر ادّعائها بأن عقد الكونفرانس الكردي يشير إلى توجهات خطيرة نحو تغيير ديمغرافي في بعض المناطق، بما يهدد النسيج الاجتماعي السوري. ليختتم البيان بأنه لا يمكن لقيادة قسد أن تستأثر بالقرار في منطقة شمال شرق سوريا، إذ تعايش مكونات أصيلة كالعرب والكورد والمسيحيين وغيرهم!!
وفق ما جاء في بيان الرئاسة السورية فإن كل ما طُرح فيها هو بمثابة القفز فوق الحقيقة ومحاولة منها في إعادة تدوير الأزمة السورية تماشياً مع مصالحها التي تعلو فوق مصالح السوريين إلى جانب مصالح وأطماع الاحتلال التركي التي ترى أن أي مبادرة للحل في سوريا من شأنه أن يؤثر على أطماعها. لهذا فإن إصدار هكذا بيان وبهذه الصيغة التي تُحرّف وتشوّه الحقائق عبر إطلاق سيل من الاتهامات الباطلة. يؤكد أن هؤلاء لا يريدون أن يستقر الوضع في سوريا وأن يعم الأمن والأمان فيها بعد كل ما عاناه الشعب السوري، بل يسعون من خلال إصدار هكذا بيانات مشوّهة إلى زيادة حالة الاحتقان وإثارة البلبلة والنزعات الطائفية والقومية، فإذا كانت الرئاسة الانتقالية السورية حريصة فكان الأجدر بها وبدلاً من إصدار هكذا بيان لا يستفيد منه الشعب السوري إعلانها بأنها ترى في الكونفرانس الكردي خطوة عظيمة لكونها ستساهم في لم شتات السوريين وتوحيد صفوفهم وفي ترسيخ نظام حكم ديمقراطي عـادل لكل السوريين.
بيان الرئاسة السورية الذي يدّعي أن حقوق الكرد مصونة ومحفوظة كما حقوق باقي مكونات الشعب السوري إضافة إلى ادعائها أن الكونفرانس يتعارض مع مضامين الاتفاق الأخير الذي جرى بين الرئيس السوري أحمد الشرع والقائد العام لقوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي، هذين البندين أيضاً هو تزوير وتشويه للحقائق، فالنظام البائد أيضاً كان يستخدم هذه المصطلحات المنمّقة والتي لم تكن تعدو إلا في سياق صف الجمل، بينما على الأرض فليس هناك أي حقوق مصونة، فالإقصاء والتهميش المتعمّد واضح ولا يمكن إنكاره، وأبسط مثال على ذلك هو قيام سلطة دمشق بعقد مؤتمر ما أسموه بالحوار الوطني السوري في الـ 25 فبراير / شباط الفائت والتي أقصت القوى الفاعلة على الأرض من أطراف سياسية واجتماعية مؤثرة وعلى رأسها الإدارة الذاتية حيث واجه المؤتمر انتقادات ومقاطعة واسعة من القوى السياسية والشعبية داخل البلاد لكونها لم تمثل التنوع السوري الحقيقي، ولم تعكس تطلعات الشعب السوري بجميع مكوناته.
ورغم أن سلطة دمشق هي التي نقضت بالاتفاق وأقصت أطراف سياسية واجتماعية مؤثرة ومكونات الشعب السوري من الحوار إلا أنه ورغم ذلك فإن عقد الكونفرانس الكردي لا يعني أنه جاء رداً على ذلك، فعقد الكونفرانس وتوحيد الأحزاب السياسية الكردية في شمال وشرق سوريا يعود إلى ما قبل سنوات عديدة وذلك بمبادرة من قبل الجنرال مظلوم عبدي التي عمل على ذلك بجهد كبير.
ثم أن ما ورد أيضاً في بيان الرئاسة التي تحاول باستمرار كما كان يفعله النظام البائد وهو أن الإدارة الذاتية وقسد تصادران قرار باقي المكونات في شمال وشرق سوريا غير صحيح، فأولاً انعقاد الكونفرانس الكردي هو شأن ذاتي لا علاقة له بمصادرة قرار باقي المكونات، فالمكونات الأخرى في المنطقة تعقد باستمرار اجتماعاتها الخاصة وهذا أمر إيجابي ومهم، والأمر الثاني سواءً ضمن صفوف قوات سوريا الديمقراطية أو الإدارة الذاتية هناك تمثيل حقيقي لجميع المكونات وهذا الأمر ليس بخافٍ عن أحد، فعلى الصعيد العسكري امتزجت دماء الكرد والعرب والسريان والآشور والأرمن ببعضها دفاعاً عن مناطقهم سواءً من هجمات الاحتلال التركي أو هجمات تنظيم داعش الإرهابي إضافة إلى وجود مجالس عسكرية خاصة بكل منطقة حتى أن هناك قوات خاصة للسريان مثالاً وجميعهم يعملون تحت سقف واحد بهدف المحافظة على التنظيم والأمن، وعلى الصعيد السياسي والاجتماعي هناك مسؤولين وإداريين من مختلف المكونات يديرون شؤون المناطق.
في نهاية المطاف، فإن تجربة قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا واحدة من التجارب السياسية والعسكرية الناجحة في سوريا منذ بداية الثورة من حفاظها على وحدة التراب السوري ومحاربة أعتى تنظيم إرهابي “داعش”، وهذا ليس بشهادة من قبل الإدارة الذاتية وقسد فقط، وإنما بشهادة الكثير من المراقبيين والمحللين السياسيين إلى جانب مكونات شمال وشرق سوريا بمختلف مكوناتها وكذلك الكثير من السوريين في بقية المحافظات إضافة إلى العديد من الدول العربية والأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية.
وما يؤكد على أن الكونفرانس الكردي هو لأجل بناء سوريا ديمقراطية موحدة تسود فيها العدالة هو التغطية الواسعة من قبل وسائل الإعلام العربية المختلفة التي تعبّر في النهاية عن المواقف الرسمية لتلك الدول، وأبرز تلك الوسائل الإعلامية هي “صحيفة الشرق الأوسط” التي عنوّنت “مؤتمر تاريخي لأكراد سوريا طالب بدولة ديمقراطية لا مركزية”، وصحيفة العرب اللندنية التي عنوّنت “الأكراد يرسمون ملامح سوريا المستقبل في مؤتمر القامشلي”، وكذلك صحيفة الرأي الإماراتية التي عنوّنت “أكراد سوريا يطالبون بدولة ديمقراطية لا مركزية تضمن حقوقهم”، فيما عنوّنت إذاعة مونت كارلو الدولية”الأحزاب السورية الكردية تتبنّى رؤية سياسية مشتركة لدولة ديموقراطية لا مركزية تضمن الحقوق”، أما مجلة المجلة السعودية عنوّنت الخبر “مؤتمر القامشلي.. الأكراد يؤكدون وحدة سوريا ويطالبون بدستور يضمن حقوقهم”، في حين كتب موقع المدن اللبناني “المؤتمر الوطني الكردي: ضد التقسيم ومع سوريا لا مركزية”.